السبت، 30 أبريل 2011

الحرية

الحرية مطلب و شعار إنساني ، تدعي الأنظمة السياسية الحاكمة تطبيقه ، و تناضل المنظمات الحقوقية و القوى السياسية التقدمية و التحررية من أجله إحقاقه . و لقد ظلت الحرية على مَرِّ التاريخ البشري قضية صراع ، اتفق حولها  كقيمة و حق ، لكن اختلف حول مضمونها و طرق تطبيقها .  و هذا ما جعلها مفهوما مُلتبسا بل و معضلة سياسية و أخلاقية ، احتار و اختلف الفلاسفة ورجال السياسة حولها و راح ضحية النضال من أجلها رجال . فما الحرية ؟ و هل الإنسان حر في أفعاله أم أنه خاضع لقوى خارجة عن إرادته (عوامل طبيعية شروط اجتماعية و مشيئة إلهية ) ؟ و ما الإرادة ؟ و هل الإنسان حر لفعل ما يريد  أم أنه حر فقط  في حدود ما تسمح به قوانين المجتمع ؟ و هل القانون ضامن للحريات أم تضييق عليها ؟ و هل وُضِع القانون لصيانة الحريات أم لمنعها ؟ و هل في الخضوع للقانون نفي للحرية ؟ و هل في ممارسة الإنسان لحريته خرق و تجاوز للقانون ؟ هل حرية الإنسان في تمرده على القانون أم في العمل به ؟ من أين تستمد الحرية مشروعيتها : من الإرادة أم من القانون ؟ و هل الحرية هي ما يتضمنه القانون أم ما تستطيعه الإرادة ؟ و هل هو فاعل بحسب الإرادة أم الواجب ؟
    يميز الفيلسوف الألماني ليبنتز (1646-1716) بين الحرية كحق وبين الحرية كممارسة ،( ففي النظام العبودي ليس للعبد الحق في الحرية ، لكن السيد له الحق في الحرية كما له الحق في ممارستها . و تقوم الحرية على قدرة الإرادة على فعل ما يجب القيام به . و يميز أيضا هوبز بين الحرية الطبيعية  التي تقوم على الحق في استعمال القوة للحفاظ علي الحق في الحياة  و هي حرية تؤدي إلى الفوضى ؛ و الحرية المدنية التي تمارس وفق القوانين التعاقدية الضامنة لحق الفرد شريطة ألا يضر ذلك بحقوق الغير .
   الحرية عموما حق الإنسان في فعل أمر أو تركه دون أن يتعرض لعقوبة و دون أن يعرض حياة غيره لخطر .  فهل فعل من هذا النوع ممكن في غياب الأخلاق و الدولة ؟  يرى البعض أن الحرية ليست في أن يفعل الشخص ما يريد بل في أن لا يُكْرَه على فعل ما لا يريد . و يرى البعض الآخر في أنها هي القدرة الذاتية على التخلص من التبعية و تحويل العوامل المتحكمة فيه إلى عوامل يتحكم فيها .
  1)- الحرية و الحتمية :
   يرى البعض أن الحديث عن الحرية لا يستقيم إلا بالحديث عن نقيضها أي عن الجبرية و الحتمية . فما الحتمية ؟ و ما الجبرية ؟ فالحتمية اتجاه علمي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب، و أنه كلما توفرت نفس الأسباب حصلت بالضرورة نفس الأسباب ، فالحتمية  نفي للصدفة و الفوضى و تأكيد على وجود نظام صارم . أما الجبرية  فاتجاه ديني ينسب كل شيء للذات الإلهية و تنفي عن الإنسان كل قدرة عن الفعل ، فالفاعل الوحيد  الحق هو الله ، و الإنسان مسير . و إذا كانت الاتجاهات الدينية في القرون الوسطى قد نظرت إلى الحرية كفعل إنساني في علاقته بالإرادة الإلهية ، فإن العلوم الإنسانية كشفت عن الشروط الواقعية ( البيولوجية و النفسية اللاشعورية و الاجتماعية ) المحددة لسلوك الشخص و حريته . و في هذا الإطار نجد الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (1126-1198) ينتقد الجبرية. فالجبرية  تؤكد خضوع الإنسان للمشيئة الإلهية و تنفي توفره على أية قدرة على الفعل ، فالله هو وحده الفاعل و لا فاعل سواه . أما ابن رشد فيبين  أن  الله تعالى خلق الإنسان في عالم ، فوهبه قدرات ذاتية على الفعل و الترك ، وجعل للعالم نظاما . فأفعال الإنسان إذا مشروطة بالنظام الذي أوجده الله في الكون ، و بالفطرة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها . و الإنسان ليس مسؤولا عن تصرفاته إلا لأنه حر ، و هو ليس حرا  في تحدي الإرادة الإلهية و خرق النظام الكوني . إن الحرية عند ابن رشد مشروطة بنظام من الأسباب التي خلقها الله في أبداننا و التي أوجدها في العالم الخارجي . و عليه فالحرية هي قدرة الإنسان الذاتية على إتيان أفعاله في توافق و انسجام مع نظام الكون و نظام الذات .
   وفي نفس السياق و لكن من وجهة نظر مخالفة ينتقد ميرلوبانتي الفيلسوف الفرنسي (1908-1961) موقف الفلسفة الوجودية و تصور العلوم الإنسانية الوضعية . فالفلسفة الوجودية ترى أن الإنسان ليس فقط كائنا حرا بل إنه كائن محكوم عليه بالحرية ، و أنه يتحدد طبقا لما يفعله بحرية . إنه حر في الأصل و الماهية ، و الظروف هي التي زَيَّفَتْ أصالة وجوده . و العلوم الإنسانية تعاملت مع الإنسان لا ككائن في ذاته كما تصورته الفلسفات المثالية بل ككائن في وضع تحكمه عوامل بيولوجية ، و توجهه دوافع نفسية لاشعورية ، و تشرطه إكراهات اجتماعية . فالعلوم الإنسانية حولت الإنسان إلى آلة مبرمجة ، و أفقدته ذاتيته و فاعليته . فالحرية كما يراها ليبنتز وَهْمٌ ، فنحن في الواقع خاضعون لحتميات تشرط كل سلوكاتنا ، غير أن جهلنا بالأسباب هو ما يجعلنا نتوهم أننا أحرار . غير أن ميرلوبانتي يؤكد من خلال نقده أن الإنسان حر في موقف (وضع) ، و أن حريته في قدرته على تحويل العوامل المتحكمة فيه إلى عوامل هو الذي يتحكم فيها و يوظفها لتحقيق اختياراته في حدود ما تسمح به الشروط . فالإنسان قادر على تعديل شروط وجوده لبناء ذاته و تحديد مصيره ، و بذلك تصير الحرية تحررا أي فعلا يمارسه الإنسان في وضع لبناء ذاته و تغيير و تعديل  شروط ظروفه . فهل حريته في فعل ما يريد ؟
  2)- الحرية و الإرادة :
  إذا كان رجال اللاهوت تأملوا الحرية في علاقاتها مع المشيئة الإلهية ، و العلوم الإنسانية سعت إلى الكشف عن العوامل الموضوعية المتحكمة في السلوك الإنساني ، فإن فلاسفة عصر الأنوار ربطوا بين الحرية و الإرادة . الإرادة هي ملكة الفعل الحر و القدرة على انجازه . و يشترط  التخلص من الضرورة وجود إرادة حرة . فما علاقة الحرية بالإرادة ؟ و هل حرية إرادته في مسايرة ميوله الطبيعية أم في التحكم فيها ؟
    يميز كانط (1724-1804) بين نوعين من الموجودات : الكائنات الطبيعية التي تستعمل كوسائل  يتم استغلالها ، و الكائنات الإنسانية التي ينظر إليها كقيمة أخلاقية تستحق التقدير و الاحترام لأنها كائنات عاقلة و حرة . و الحرية خاصية لكل كائن عاقل له إرادة ، فهو حر لأن له إرادة . و يعرف الحرية بأنها ‘‘ استقلال الإنسان عن أي شيء إلا القانون الأخلاقي .’’  فحرية الإرادة تتجلى في قدرة الإنسان على السيطرة إلى ميوله و نزواته الطبيعية التي تهبط به إلى مصاف الحيوانات ، و العمل بمقتضى القانون الأخلاقي الذي يُسَطِّرُه العقل . إن حرية الإرادة عند كانط هي  إرادة خيرة تعمل بالواجب الأخلاقي لا وفق الضرورة الطبيعية . فحرية الإرادة ليست في الخضوع للميول و الشهوات الطبيعية  بل في العمل بما يفرضه عليه العقل من قوانين أخلاقية . فمجال حرية الإرادة هو الأخلاق ، أي  في فعل الخير . فالإنسان حر في  فعل الخير و العمل  بالفضائل لا في فعل الشر و الرذائل . و أن مسايرة الأخلاق اختيار لكن مسايرة الميول ضرورة .
   أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) فيعتبر الأخلاق غريبة عن  الحياة ، لأنها تُوهِمُ بوجود عالم لا وجود له ، وأنها بحث عن الكمال خارج الحياة الواقعية ، فالحياة فعل و قوة لا أخلاقٌ . و ليست القيم الأخلاقية في نظره سوى أوهاما و حِيَلاً اخترعها الضعفاء من الناس لمواجهة الأقوياء في الصراع من أجل الحياة خدعوا بها الأقوياء كما خدعوا بها أنفسهم . فالأخلاق خدمةٌ لمبادئ غريبة عن الحياة . و هذا ما جعل إرادة الضعفاء إرادة عدم تزهد في الحياة و تتنكر لها . لقد صارت البشرية عبيد أوهام اخترعوها لإفساد الحياة . و عليه فإن نيتشه يدعو للتحرر من تلك الأوهام بإرادة الحياة التي هي إرادة القوة . إن إرادة الحرية هي إرادة القوة لا إرادة الخير . و التحرر لا يكون بالزهد في الحياة  و إنكارها، لأن الزهد يمنع الإنسان أن يكون إنسانا على الأرض . و عليه فإن الحرية هي التخلص من قيم الزهد في الحياة التي انتشرت مع الكنيسة المسيحية وكل الاتجاهات اللاهوتية .
 و إذا كانت الحرية عند كانط في انتصار المبادئ الأخلاقية ، فإن الحرية  عند نيتشه هي انتصار الميول الطبيعية .
  3) – الحرية و القانون :
  الإنسان في نظر أنصار العقد الاجتماعي ولد حرا ، وحريته في ممارسة قوته الطبيعية التي تصطدم بقوة أخرى ، و ينشأ عن ذلك حالة حرب يفقد فيها الإنسان أمنه و حريته و حياته . و لذلك كانت الضرورة تقتضي وضع حد لحالة الحرب و الخروج من حالة الطبيعة بقيام دولة تصدر قوانين . فما القانون ؟ و هل القانون وضع لحماية الحريات أم لمنعها ؟ وهل حرية الإنسان في استعمال قوته الفردية أم في لجوئه إلى القوة العمومية التي تحميه ؟ القانون إلزام و الحرية اختيار، فكيف يمكن المواءمة بين القانون و الحرية ؟ و هل الحرية عمل ضد القانون أم عمل في إطار القانون ؟ و هل القانون إجراء لتعطيل الحريات أم إطار لممارستها ؟ ألا يجعل القانون الحرية نسبية لأنه يحميها و في نفس الوقت يحدها ؟ و هل الإنسان خارج القانون حر ؟  
   يربط الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو(1689-1755) بين الحرية و النظام السياسي الديمقراطي القائم على فصل السلطات . فالحرية في نظره ليست في أن يفعل المواطن ما يريد  بل هي أن يعمل ما تجيزه له القوانين العادلة . فمهمة القوانين هي تنظيم العلاقات بين الناس في المجتمع لضمان الحريات . فالحرية هي في احترام القانون و العمل به ، و أن لا حرية خارج القانون . لكن ألا يؤدي الالتزام بالقانون إلى نفي الحرية ؟      
    و ترى الفيلسوفة الألمانية الأصل حنا أرندت (1906-1975) أن الحرية ليست مسألة أخلاقية باطنية بل إنها مسألة سياسية تتعلق بنظام يعمل على تعايش الحريات و يوفر إمكانيات الفعل و التفكير و التعبير . فالحرية نشاط واع يمارسه المواطنون في ظل نظام سياسي للمطالبة بحقوقهم ورفع الغبن و القهر عنهم .  و الإنسان لا يعي حريته بذاته بل في علاقاته مع غيره و مع مؤسسات الدولة بالانتظام في مؤسسات المجتمع المدني لمنع هيمنة الدولة على المجتمع و وضع حد لكل إمكانية التسلط . و بذلك تتحول الحرية إلى تحرر أي إلى حركة واعية و متواصلة لتنظيم العلاقات بين السلط لتعمل كل سلطة في مجال اختصاصها على حماية الحريات كحق سياسي .
   الحرية إذا حق يرتبط بالأخلاق و تنظمه القوانين و يشرف على حمايته نظام سياسي عادل .

الجمعة، 29 أبريل 2011

الواجب

 الواجب

    يقول إريك فايل : " يشكل الواجب المقولة الأساسية و الوحيدة للأخلاق ." و كما أن للإنسان حقوقا ، فعليه واجبات ؛ فحقهم واجب عليه ، و حقه واجب عليهم . فما الواجب ؟ و هل الواجب إكراه أم قدرة ، إلزام أم التزام ؟ و هل الوعي الأخلاقي بالواجب فطري أم مكتسب ؟ و هل أساس الوعي به هو الطبيعة أم المجتمع ؟ و هل الواجب هو ما يفرضه علينا المجتمع أم يلزمنا به الانتماء للإنسانية ؟ هل الإنسان فرد في مجتمع أم عضو في المملكة الإنسانية ؟  
   الواجب هو ما يُلزم الإنسانُ أخلاقيا للقيام به استجابة لنداء الضمير، إنه ما يجد الإنسان نفسه مطالبا بأدائه طِبْقا أو احتراما ، كَرْها أو طوعا ، للعمل بالقيم الأخلاقية  في حياته الاجتماعية دون تقصير أو تهاون ، لا نفاقا أو رياء و لا استجابة لمصلحة. فالواجب إذا هو احترام و عمل بالفضائل . و لقد اختلف الفلاسفة حول ما إذا كان الواجب هو ما نؤمر به و نُكْرَهُ على فعله  أم ما نقدر على القيام به ؟  
    1)-  هل الواجب إكراه  أم قدرة ؟
  يرى كانط (1724-1804) أن الأخلاق تقوم على الواجب ، و الإنسان مطالب بأداء الواجب لا طبقا للقانون الأخلاقي بل احتراما له  ( أي أنه لا يسرق خوفا من عقاب القانون بل احتراما خالصا للقانون). و الواجب هو العمل بالقانون الأخلاقي الذي يفرضه العقل العملي و تعمل به الإرادة الخيرة لإقصاء الميول و التخلص من تأثيرها  . فالإنسان بميوله يظل حيوانا ينتمي لمملكة الضرورة الطبيعية . و لن تكون الإرادة خيرة إلا إذا ارتبطت بالعقل و التزمت بقوانينه . فالواجب إذا هو ما يقره العقل و ما تعمل به الإرادة الخيرة من الفضائل . و الإنسان إذ يختار العمل بالقواعد الأخلاقية يكون ملزما على العمل بها للتحرر من سيطرة الميول الغريزية عليه . و بذلك تكون الأخلاق عند كانط أوامر قطعية مطلقة لا تراعي ظروفه و لا قدراته ،  و يكون العمل بها قهرا و إكراها لميوله الطبيعية  .
    غير أن جان ماري غويو (1854-1888) ينتقد مفهوم الواجب كأمر مطلق ، مؤكدا أن الواجب ليس أمرا نُرْغَم على فعله بل قدرة ذاتية طبيعية و تلقائية على فعل عظيم  مقدور عليه تتدفق به الحياة و تسمو . فالأخلاق في نظره ليست في أن يُلزَم المرء بما لا يستطيعه ، و إلا كُلِّفَ بما ليس في طاقته ، و في هذا ظلم له ، و ما فيه ظلم و قهر فهو متعارض مع الأخلاق . و لذلك فالواجب هو ما يكون باستطاعة المرء القيام به من أفعال عظيمة. و ما ليس باستطاعة الإنسان فعله فمعفى منه و ليس واجبا عليه و لا يعاقب على تركه ؛ و القيام بما في مقدوره لا يستحق عليه ثوابا . و بذلك يؤسس غويو أخلاقا بدون عقاب و لا ثواب ، لأن العمل بها يتلاءم مع طبيعة الإنسان . و يشبه غويو الواجب بازدهار النبتة ، فمن طبيعة النبتة أن تنمو ، و كذلك الواجب بالنسبة للإنسان ، إنه من طبيعته ، تلقائي فيه . فالواجب هو ما يتلاءم مع طبيعة الإنسان و ما يكون بقدرته القيام به من أفعال عظيمة و جليلة تتدفق بها الحياة و تمضي بها قدما ؛ فالحياة قد تُعطَّل إذا لم تكن القدرة على الفعل متناسبة مع الواجب . إن تصور غويو للواجب هو تصور طبيعي يتعارض مع التصورات الغيبية التي تعتبره  أمرا قطعيا . فالواجب ليس شعورا بضغط بل شعور بقدرة على فعل عظيم ، و لم يعد الواجب إكراها خارجيا  بل قدرة إنسانية فعالة  .
     2) – الوعي الأخلاقي  بالواجب :
      و سواء كان الواجب إكراها أو قدرة فإنه يشترط وعيا ، فما الوعي الأخلاقي بالواجب ؟ و هل هو فطري أم مكتسب ؟
    الوعي عموما هو ملكة إنسانية للإدراك و التمييز ، و يميز الفلاسفة بين نمطين من الوعي : الوعي المعرفي و الوعي الأخلاقي ، فالوعي المعرفي هو تلك لقدرة العقلية التي يتم بها السعي للعلم بحقائق الذات و الواقع ؛ أما الوعي الأخلاقي فهو تلك الملكة العملية التي يتم بها التمييز بين الفضائل و الرذائل  و العمل بالفضائل . و يطلق على هذا النمط من الوعي الضمير .
   و يعتبر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) أن الوعي الأخلاقي هبة إلهية أودعتها الإرادة الإلهية في أعماق النفس الإنسانية ، بها نحب و نقدر على فعل الخير ، و بها نتميز و نسمو عن مرتبة البهائم ؛ إنها مرشدنا  المضمون نحو الفضيلة و العاصم لنا من  الشرور و الرذائل . و لا يحتاج الإنسان إلى بعثة رسل أو اطلاع على نظرية للإحساس بالواجب و محبة الخير ، فللإنسان وعي فطري بالخير و الشر  ، يقول روسو :‘‘ كل ما أحسه شرا فهو شر ، و الضمير هو خير الفقهاء ’’ . و إذا كانت الدوافع البيولوجية تدفعنا للصراع و العنف ، فإن الضمير هو الذي يقربنا و يوحد بيننا ، فالحياة الاجتماعية لا تستقيم بالحاجة البيولوجية  بل بالوعي الأخلاقي  الفطري . 
   أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900 ) فيعترض على أن يكون الوعي بالواجب أمرا فطريا . فالواجب في نظره هو نتيجة تاريخية لظاهرة المديونية التي اضطر إليها الضعفاء من الناس . و لقد اشترط الدائن على المدين شروطا التزم المدين بقبولها كواجبات عليه ، وهي أن يسدد الدَّيْن الذي عليه  في وقته ، و إن عجز فيجوز للدائن القصاص منه بتعذيبه أو استعباده أو بتر عضو من أعضائه  أو قتله كأسلوب لاسترداد الدَّيْن الذي في ذمته . فالواجب إذا هو نتيجة تعاقد بين الدائن و المدين ، فرض الدائن بموجبه شروطا قاسية و عنيفة و قًََبِلَ  بها المدين . و لذلك لا يُعْقل تجاهل الشروط التاريخية التي سببت نشأة الوعي بالواجب . و عليه فالواجب هو ما أُكره عليه المدين من قبل الدائن في ظروف تاريخية . فلقد مَثَّل الواجب رغبة الأقوياء في إيذاء الضعفاء و الاستمتاع بممارسة العنف عليهم و احتقارهم . في هذا الشكل من الإلزام و الالتزام يكمن أصل الواجب و باقي القيم الأخلاقية . إنه ليس نتيجة إرادة خيرة بل نتيجة إرادة القوة ، إنه من صنع الأقوياء الذين خلقوا القيم الأخلاقية و وضعوا القوانين و حددوا معنى الخير و الشر ، إنه ما يتم به إخضاع واستعباد الضعفاء .
    3)- الواجب و المجتمع :
  ليس هناك إنسان في ذاته كما يقول كانط ، فالإنسان كائن ينتسب لمجتمع معين و في نفس الوقت ينتمي للإنسانية ، فهل الواجب لديه اجتماعي أم إنساني ؟  و هل مصدره المجتمع أم منبعه الإنسانية ؟ و هل الإنسان ملزم بواجبات نحو مجتمعه فقط أم بواجبات نحو الإنسانية جمعاء ؟ ألا يؤدي ربط الواجب بالمجتمع إلى إضفاء طابع النسبية و التغير عليه نظرا لاختلاف المجتمعات و تباينها عبر الزمان و المكان ؟
   الإنسان كما يرى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858- 1915) كائن اجتماعي يتشرب عن طريق التنشئة الاجتماعية القيم و المبادئ الأخلاقية لمجتمعه كواجبات يكره على العمل بها و السلوك وفقها . فالواجبات كمبادئ اجتماعية تخترق وجداننا الباطني و تستقر فيه كمبادئ منظمة للسلوك . فمصدر الواجب إذا هو المجتمع ، و بذلك ينفي  دوركهايم أن يكون مصدره غيبيا أو أسطوريا . يقول دوركهايم : ‘‘ فضميرنا الأخلاقي لم يَنْتُج إلا عن المجتمع و لا يُعَبِّر إلا عنه ، و إذا تكلم ضميرنا فإنما يردد صوت المجتمع فينا ’’. فالواجب سلطة اجتماعية قاهرة مكتسبة  و ليست فطرية .
   ربط الواجبات بالمجتمع يجعلها نسبية ، مختلفة من مجتمع لآخر ، و متغيرة من فترة لأخرى . و كما أن تَشَرُّبَ القيم الاجتماعية و التشبث بها و الاعتقاد في إطلاقيتها ربما يؤدي إلى الانغلاق و معاداة المختلف اجتماعيا و أخلاقيا و الطعن في ثقافته ، و بذلك تتحول الواجبات الأخلاقية من فضائل اجتماعية إلى رذائل و شرور تضر بالإنسانية .
   و هذا هو الأمر الذي سعى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) لتجاوزه ، فهو يعتبر الواجب ليس اجتماعيا فقط  بل إنسانيا أيضا . و كما أن على الإنسان واجبات نحو مجتمعه  فعليه أيضا واجبات نحو الإنسانية . فالإنسان فرد في مجتمع ،  و عضو في الإنسانية . و لذلك فالواجب ليس محصورا في احترام قيم المجتمع و العمل بقوانينه بل في احترام إنسانية الإنسان و الانفتاح على مختلف الحضارات و الاستفادة منها لبناء عالم منفتح تتلاقح فيه الأفكار و تغتني فيه الثقافات و تتعاون فيه الإرادات وتتحاور فيه الأديان و يسود فيه التسامح و تتوطد فيه علاقات  السلام و تسعد فيه الأمم . و بذلك يكون الواجب هو الانفتاح على الإنسانية بدل الانغلاق في قضايا المجتمع المحلية . و عليه فليس الواجب اجتماعيا فقط بل انساني أيضا .

المجزوءة الرابعة : الأخلاق

 لا يخضع الإنسان في تصرفاته فقط للدوافع البيولوجية و الغرائز الفطرية كالحيوان ، و إنما يتصرف بضمير أخلاقي و يعمل بقيم سامية و مثل عليا ، وهذا ما يجعل منه كائنا أخلاقيا ، يَفْضُل الحيوانَ بمعرفته و عمله بالأخلاق . و الأخلاق نظام من القيم السامية التي يعتمدها الإنسان (كفرد أو جماعة ) كمبادئ و قواعد يسترشد بها لفعل الخير و يتجنب الشر سعيا لإسعاد نفسه و غيره . فالأخلاق إذا قوة يتحكم بها الإنسان في شهواته و ميوله ، و قواعد لعمل الخير . فالأخلاق  إذا واجباتٌ ، و الإنسانُ مسؤولٌ عن القيام بها لإسعاد ذاته و غيره ، و هو لن يتحمل مسؤولية أفعاله إلا إذا كان حرًّا . فما الواجب ؟ و ما السعادة ؟ و ما الحرية ؟ إنها مفاهيم أخلاقية متمفصلة ، يتأكد من خلالها أن الإنسان ، ككائن أخلاقي ، هو كائن حر يعمل بالواجب لتحقيق السعادة ، فالواجب أساس الأخلاق ، و الحرية شرطها، و السعادة غايتها. 

الحق و العدالة

من الممكن أن يكون تطابق بين العدالة والإنصاف وقد نرغب فيهما معا إلا أن الإنصاف أهم وأفضل من العدالة لأنه الشرط الأساسي لتصحيح ما يلحق بها عند تطبيقها من أخطاء ناتجة عن عمومية قوانينها كما يؤكد أرسطو ولان الإنصاف وحده الذي يكيف قوانين العدالة ويجعلها تستقيم مع تلك الحالات الخاصة .
أما الفيلسوف أفلاطون يري أن العدالة تتحقق من خلال تصرف كل واحد في إطار ما يعنيه أي أن يؤدي كل فرد الوظيفة المناسبة لقواه العقلية والجسدية والنفسية دون أن يتدخل في شؤون غيره .ويضيف أفلاطون أن القدرة على أداء المهمة التي يفرضها المجتمع على كل فرد تقف في إسهامها في كمال المدينة على قدر المساواة مع الحكمة والاعتدال والشجاعة مما يحقق الفضيلة الكبرى وهي العدالة .
أما الفيلسوف الانجليزي هيوم الذي ينتمي إلى المدرسة التجريبية مؤكدا أن لاتمنح الإنسان إلى قليلا من المتع غير أن الإنسان بإمكانه إن يحقق وفرة من المتع بواسطة الفن والعمل والصناعة وان يحقق الحرية والحق والكرامة باعتباره حرا في تحقيق منفعته الخاصة التي لاتتعارض مع المنفعة العامة من هنا تصبح العدالة في نظر هيوم فضيلة لاتخلقها إلا قوانين المجتمع ومن ثم فإن أخلاق المنفعة والمتعة لاتتعارض مع مفهوم الحرية الفردية والجماعية باختصار أن قيمة العدالة تكمن في المنفعة وما يميزها من التزام أخلاقي .
ويحاول الفيلسوف الأمريكي راولز أن يؤسس النظرية للعدالة بإنصاف ذلك من خلال تشكيل مؤسسات سياسية واجتماعية عادلة وتوافق سياسي بكيفية صلبة وواع وطواعي بين مواطنين ينظر إليهم من حيث أنهم أشخاص أحرار وأنداد مما يفضي إلى المساواة والحرية ويضمن خير كل الأفراد وكل الجماعات التي تنتمي إلى نظام ديمقراطي عادل

الدولة

الدولة
يعتبر الإنسان بطبعه حيوانا سياسيا لهذا فهو يميل إلى الاجتماع ويدخل في علاقة مع االاخرين تضمها قوانين وقواعد اجتماعية وأخلاقية والدولة كمؤسسة تنظيمية وسياسية هي التي تكلف بهذه القوانين حيث تدل على مجموع إرادات الأفراد وخضوع هؤلاء للدولة يعني تقاسمهم واشتراكهم في مجموعة من القوانين والعادات والطقوس والقيم من خلال مؤسسات السلطة التي تمارس على الأفراد نوعا من العنف الذي يحول إلى إلزام مشروع من اجل خلق توازن داخل المجتمع . من هنا نتساءل : من أين تستمد الدولة مشروعيتها ؟ هل من حماية الحريات وضمان الأمن ؟ أم من ممارسة العنف والهيمنة ؟ وكيف بإمكاننا أن نتحدث عن إمكانية خلق توازن بين هذين الطرفين المتناقضين
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها
نظرا لطبيعة الإنسان المختلفة والعدوانية المتصادمة التي تساهم في خلق الظلم والجور والاعتداءات والعدوان كان لابد من التجاء الإنسان إلى مؤسسات تنظيمية تضمن للأفراد حقوقهم وظمان الأمن والحرية ... والدولة هي المؤسسة التي سلم لإنسان إليها تدبير أموره وشؤونه. ويعتبر الفيلسوف ( جون لوك) إن هذه الدولة تستمد مشروعيتها من عملها على حماية امن الناس وسلامتهم وممتلكاتهم من خلال مؤسساته السلطوية هي التي تملك قوة مسلحة مكونة من القوة المجتمعية لكل الأفراد من اجل معاقبة من ينهكون حق الغير .
ويرى ويرى اسبينوز قائلا(أن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليس السيادة أو إرهاب الناس وجعلهم يقعون تحت نير الآخرين بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في امن وأمان بقدر الإمكان أي تفضي بقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير.)
إن غاية الدولة بهذا المعنى حسب اسبينوزا هي الحرية حرية الأفراد ككائنات عاقلة ويعتبر هيجل الدولة تحقق الإرادة الحرة والكونية بوصفها قيمة أخلاقية من خلال نشرها للقيم الروحية والمبادئ العقلية وهي قيم ومبادئ أساسية بالنسبة للمجتمع حتى يتمكن الإنسان من لاعتراف بإنسانيته .بعبارة أخرى أن الإنسان يجد في الدولة الحرية الإنسانية وذلك من خلال لاعتراف كروح موضوعية . وحينما يتعود الإنسان على الثقة في الدولة يصبح يراها كامل لإرادته الواعية فكره الذي يقوم على مبدأ الدولة.
لكن إذا كانت الدولة تنظم العلاقات بين الناس من خلال ممارسة سلطة معينة فماهي طبيعة هذه السلطة ؟ وعلى أي أساس سلطة الحاكم

المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية
يؤكد مونتيسكيو انه في كل دولة توجد ثلاثة أنواع من السلط السلطة التشريعية السلطة التنفيذية السلطة المتعلقة بالحق المدني القضائية المتعلقة بحقوق الناس
السلطة التشريعية السلطة التنفيذية (حقوق الإنسان أو الناسالسلطة القضائية(الحق المدني)يقوم الأمير أو القاضي بوضع القوانين لفترة محدودة أو للأبد يصحح أو يلغي القوانين الموضوعة سابققيام الأمير أو القاضي بإقرار السلم أو يستقبل السفراء يعمل على ضمان الأمن وحماية البلد منا لاعتداءات يعاقب مرتكبي الجرائم يكون حكما في النزاعات التي تنشب بين الأفراد
ويشير مونتسكيو إلى انه لينبغي الجمع بين هذه السلطات في يد شخص واحد أو هيئة قضاء واحدة لان ذلك لا يترك مكانا للحرية ويتيح امانية صياغة قوانين استبدادية إذ ليس من المعقول أن يكون القاضي هو المشرع نفسه لهذا لابد أن نفصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية من اجل إلا يكو ن هناك استبداد
وينظر جون لوك إلى السلطة السياسية من خلال تمييزه بين ( الطور الطبيعي) و(العقد الاجتماعي) حيث كان الإنسان ينعم في المجتمع الطبيعي بالمساوت والحرية المطلقة ولا يحكمه إلا القانون الفطري أما العقد الاجتماعي فهو المرحلة التي سيتنازل فيها الإنسان عن كثير من حقوقه في مقابل عقد واتفاق على صيغة من القوانين يتم الخضوع فيه لقرار الكثرية الذي هو قرار المجتمع وعلى الفرد أن يسلك وفق مآتم الاتفاق عليه من طرف الأغلبية من الناس.
وينتقد (السوسيولوجي.ألان تورين ) طبيعة السلطة السياسية القائمة على الحزب الواحد والاستبداد والسلطة المطلقة .ويعتمد مفهوم الديمقراطية مفهوم يتعارض مع الطغيان والاستبداد باعتبار الديمقراطية تركز على حقوق الناس الثقافية والحقوق المدنية والحقوق الاجتماعية والوعي بالمواطنة أي الانتماء إلى الجماعة التي تشمل الحق والعدل والمساواة والممارسات الحرة

المجزوءة الثالثة : السياسة

تعتبر السياسة علم تدبير شؤون المجتمع تقوم بنشر القانون وتثبيته من خلال سلطة يتم السعي إليها وممارستها داخل المدينة أو الدولة كما تعتبر السياسة فعلا كليا ينظم العلاقات بين الأفراد والجمعات وتجدر الإشارة إلى أن هناك تصورين بارزين في السياسة الأول يمثل السياسة كمعرفة نظرية مثالية ويتصور دولة مثالية خالية من العنف وكل أشكال التدليس والظلم ومفعمة بالعدل والحق والأمان .والتصور الثاني على العكس من ذلك يمثل السياسة مصحوبة بنوع من العنف باعتباره عنصرا لخلق التوازن داخل المجتمع ي إن العنف يصبح مبررا .من هنا يمكننا التساؤل: من أين تستمد السياسة مشروعيتها وعلى ماذا تتأسس ؟ وماهي طبيعة وجود العنف داخل السياسة ؟ وما الغاية من ممارسة السلطة السياسية ؟ هذه الغاية هي ممارسة العنف والاستبداد أم هي الحق والعدالة أم هي العنف والعدالة معا

الحقيقة

تعتبر الحقيقة هدفا لكل بحث علمي ولكل تأمل فلسفي, إنها الغاية التي ينشدها كل إنسان سواء في علاقات اجتماعية أو في حياته الشخصية أو في علاقته بالوجود. غير أن مفهوم الحقيقة يتصف بنوع من الغموض سببه تعدد الحقائق، و تعدد مصادر المعرفة كما تطرح صعوبة تمييز الحقيقة عن أضدادها نتيجة تداخلهم، وهو ما يستوجب وضع مفهوم الحقيقة موضع سؤال. إذ يقتضي الأمر في البداية معرفة الحقيقة و تحديد دلالتها ، ثم إبراز الوسائل المعتمدة للوصول إلى الحقيقة (هل هو العقل أم الحواس), و أخيرا تحديد معيار التمييز بين الحقيقة و اللاحقيقة.
الرأي و الحقيقة
"بليز باسكال"
يعارض تصور الشكاك(الذي يفيد على انه ليس هناك حقيقة يمكن معرفتها)، ولقد قسم الحقائق إلى صنفين متكاملين: حقائق مصدرها العقل ويتم البرهان عليها، وحقائق مصدرها القلب ويتم الإيمان أو التسليم بها، ويعجز العقل عن إدراكها بل إن العقل يحتاج إلى حقائق القلب لينطلق منها بوصفها حقائق أولى.
"غاستون باشلار"
يعد الرأي بمثابة معرفة جاهزة ومتداولة في الثقافة الشعبية وتتصف بنوع من العشوائية ولا تخضع لتنظيم، إنه عائق معرفي يمنع الباحث من الوصول إلى الحقيقة التي يتوخاها، إن الحقيقة العلمية تنبني على بحث علمي خاضع لمنهجية دقيقة تسمو به فوق التأملات والآراء والتصورات.
معايير الحقيقة
"رونيه ديكارت"
الحدس بمثابة فعل عقلي يستطيع الإنسان بفضله فهم حقيقة الأشياء بشكل مباشر إذا كانت واضحة وبسيطة، وبالاستنباط يتمكن الإنسان من استخراج معرفة كان يجهلها من معرفة سابقة يدركها، شريطة أن تكون يقينية و صادقة، فالحدس والاستنباط أساسا المنهج المؤدي إلى الحقيقة.
"باروخ اسبينوزا"
يؤكد على أن الحقيقة معيار لذاتها إذ بفضل معرفة الحقيقة نستطيع تجنب الخطأ والوهم، فشرط معرفة نقيض الشيء هو معرفة الشيء ذاته، إذ لا يستطيع الإنسان أن يثبت ما إذا كانت الأفكار باطلة إلا إذا كان يعرف الأفكار الصائبة. الحقيقة في نظر "اسبينوزا" بمثابة النور الذي يؤدي إلى إزالة نقيضه.
الحقيقة بوصفها قيمة
"مارتن هايدغر"
يبين أن كل انحراف على الحقيقة يجعل الإنسان يتيه ويضل عن الفهم السليم للأشياء وينتج التيه بسبب اعتماد الإنسان على الأفكار المسبقة في فهمه للأشياء أو بسبب إسقاط تصوره الخاص عليها، وينبغي عليه كذلك أن يدع الأشياء تكشف له عن حقيقتها، لذا تتمثل قيمة الحقيقة في توجيه الإنسان إلى الطريق المستقيم في فهمه للأشياء وتجنيبه كل انحراف.
"اريك فايل"
يعتبر أن نقيض الحقيقة التي يهددها ليس هو الخطأ بل هو العنف الذي يؤدي إلى رفض الآخر والدخول في صراع معه وإيقاف التفكير والاستبداد بالرأي، وبالمقابل فإن "فايل" يؤكد أن قيمة الحقيقة تتجلى في الانفتاح على الآخر وقبوله والدخول في حوار معه و تجاوز كل أشكال الصراع والحرب معه.

النظرية و التجربة

النظرية العلمية
تطرح علاقة النظرية بالتجربة إشكالا يتمثل في تحديد الأساس الذي ينبغي اعتماده لفهم العالم إذ نجد عددا من الفلاسفة و المفكرين يعتبرون أن للعقل القدرة الكاملة على فهم قوانين العالم و اكتشاف أسراره وذلك عن طريق التأمل النظري لأن العقل يمتلك أفكارا فطرية تؤهله لفهم كل ما في الوجود، بينما نجد عددا من الفلاسفة و العلماء يعتبرون أن المعرفة ينبغي أن تُستمد من الواقع وذلك من خلال اعتماد التجربة و الحواس، غير أن هذا الاختلاف الموجود بين التصورين يفضي إلى نمطين من البحث يكون أحدهما بحث عقلاني بينما يكون الآخر بحث تجريبي.
التجربة و التجريب
"كلود برنارد" يركز على دور التجربة والملاحظة لبناء المعرفة العلمية مع الالتزام بخطوات المنهج التجريبي(الملاحظة ثم الفرضية فالتجربة) والتي ستوصله إلى تقديم نظرية علمية وتفسير مناسب للظاهرة المدروسة، واشترط في الملاحظة على التخلص من الأفكار المسبقة ومحاولة تقديم وصف دقيق، ثم اتخاذ الحيطة و الحذر مع هذه المعطيات لكي لا يغفل الباحث ما هو مهم و يركز على ما هو ثانوي.
"روني طوم" يوضح أن التجربة ليست هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية وهي عاجزة بمفردها عن تفسير الظواهر فهي تحتاج إلى العقل والخيال، ويتجلى دور العقل في بناء المعرفة من خلال صياغة الفرضية، ثم محاولة اكتشاف الأسباب إلى جانب إمكانية القيام بتجارب ذهنية.
العقلانية العلمية
"ألبير انشتاين" يعتبر أن العقل مصدر المعرفة العلمية وذلك لأنه ينتج مبادئ وأفكار تعد بمثابة الأساس الذي ترتكز عليه النظرية، وتبقى التجربة بمثابة أداة مساعدة لإثبات صدق النظرية، إن المعرفة العلمية حسب "انشتاين" تنبع أساسا من العقل النظري، غير أنها تحتاج التجربة لكي تكملها و تؤكد صدقها.
"غاستون باشلار" تعد المعرفة العلمية نتيجة تكامل عمل كل من العقل والتجربة، حيث أن العقل ينتج أفكارا وتصورات يكون هدفها تنظيم معطيات التجربة و تفسير ما هو مادي وذلك ضمن نسق منطقي، بينما تعمل التجربة على استخلاص مجموعة من المعطيات الحسية بهدف إغناء المعرفة الإنسانية، وبهدف تحديد مضمون أفكار النظرية.
معايير علمية النظرية العلمية
"بيير تويلي" لكي تكون النظرية علمية يجب أن تخضع للاختبار، ولا ينبغي القيام بتجربة واحدة، إذ تعد التجربة الواحدة غير كافية، و لهذا فانه يقترح تعدد التجارب و الاختبارات في وضعيات مختلفة، إضافة إلى فرضيات جديدة من شئنها أن تضفي الانسجام على النظرية كما ينبغي على النظرية أن تخضع لمبدأ التماسك المنطقي بحيث تكون كل الأفكار مقبولة عقليا و خالية من التناقض و متماسكة منطقيا.
"كارل بوبر" يبين أن النظرية تكون علمية إذا كانت قابلة للاختبار ومعيار الاختبار هو القابلية للتكذيب باعتباره معيارا عقليا يستوجب الاعتماد على التجربة في محاولة وضع افتراضات بناء على معطيات جديدة تبين مجال النقص في النظرية.

العلوم الإنسانية
لقد كان ظهور العلوم الإنسانية خلال ق. 19 جد متأخر بالمقارنة مع العلوم التجريبية، لهذا لازالت تعاني من صعوبات في تحديد موضوع دراستها وفي اختيار المنهج المناسب للبحث، غير أن أهم الإشكالات التي تطرحها : تتمثل في تحديد علاقة الذات بالموضوع ما دام الإنسان هو الذات الباحثة و في نفس الوقت هو موضوع البحث. و يترتب عن ذلك تحديد قيمة المعرفة التي تنتجها العلوم الإنسانية إذا ما قورنت بما تنتجه العلوم التجريبية. هل يمكن التعامل مع الإنسان باعتباره موضوعا أو شيئا؟ ما قيمة المعرفة التي تصل إليها العلوم الإنسانية؟ هل يمكن تطبيق المناهج التجريبية في دراسة الظاهرة الإنسانية؟
موضعة الظاهرة الإنسانية
"جون بياجي" يواجهه الباحث في العلوم الإنسانية صعوبات في الكشف عن الحقائق بشكل موضوعي، إذ يواجهه مشكل تحديد المنهج المناسب إلى جانب التخلص من الذاتية، و ينتج عن هذا الوضع المتداخل صعوبة تحقيق الموضوعية.
"فرانسوا باستيان" يؤكد على ضرورة الفصل بين الذات والموضوع والالتزام بالحياد في دراسة الظواهر الإنسانية ليتمكن الباحث من الوصول إلى معرفة موضوعية، و ذلك بتأمل الظواهر الإنسانية باعتبارها أشياء، إذ ينبغي على الباحث أن يقتدي بالعلوم التجريبية وما حققته من تقدم في هذا المجال.
التفسير و الفهم في العلوم الإنسانية
هل يمكن اعتماد الفهم و التفسير في دراسة العلوم الإنسانية؟ و كيف يساهم التفسير و الفهم في بناء المعرفة ضمن العلوم الإنسانية؟
"ك. ل. ستراوس" يبين أن البحث في مجال العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يصل إلى تفسير دقيق للظواهر، كما لا يستطيع أن يصل إلى تنبؤ صحيح بما ستكون عليه، و يبقى أن العلوم الإنسانية تحاول باستمرار أن تأخذ جوانب من التفسير وجوانب من التنبؤ في صياغة معارفها، ومن أسباب صعوبة تقديم التفسير في العلوم الإنسانية نجد تعدد العوامل المتدخلة في تحديد كل ظاهرة (عوامل نفسية، اجتماعية، سياسية، ثقافية...).
"فلهلم دلتاي"يرفض تقليد العلوم التجريبية في اعتماد منهجها كما يرفض اعتماد التفسير في دراسة الظواهر الإنسانية، و يؤكد بالمقابل على ضرورة بناء منهج علمي يناسب الظواهر الإنسانية ويأخذ بالاعتبار خصوصيتها.
نموذجية العلوم التجريبية
هل تعتبر العلوم الإنسانية بمثابة نموذج ينبغي لباقي العلوم أن تقتدي به؟ كيف يمكن للعلوم الإنسانية أن تتخلص من حضور الذاتية في النتائج؟
"ورنيي - طولرا" تعاني العلوم الإنسانية من تداخل الذات والموضوع بمعنى أن الباحث يعتبر جزءا أو مشاركا في الموضوع المدروس، إن العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تصل إلى معرفة حقيقية للظواهر الإنسانية إلا بهذا التداخل بين الذات و الموضوع . فلا يمكن لدارس أن يفهم مجتمعا لم يعش فيه ولم يشارك في إنتاج أشكال حياته الاجتماعية. فليس عنصر الذاتية في العلوم الإنسانية عيبا بل ينبغي ألا تطغى هذه الذاتية على البحث فتغير من نتائجه و تأول دلالته.
"م. ميرولو بونتي" يبرز أهمية التجربة الشخصية في تكوين المعرفة بالعالم و ظواهره. إن كل إنسان ينطلق من وجهة نظره الخاصة و من فهمه الخاص ليبني معرفة بالكون ورغم اعتماده على منهج دقيق وعلى تجربة علمية يبقى حضور الذات مركزيا في تكوين كل معارف الإنسان.

المجزوءة الثانية : المعرفة

إن كل عملية فكرية تستوجب وجود ذات عارفة متصفة بالوعي و العقل و في المقابل موضوع معرفة، و المعرفة تحتم على العالم أن يلتزم الحياد في بنائه للمعارف حتى تكون موضوعية و لذا ينبغي التخلي عن وجهته الخاصة و شعوره الخاص في تعامله مع موضوع الدراسة، فالمعرفة ليست معطيات جاهزة و تلقائية بل هي نتاج لمجهود إنساني تتدخل في إنشائه عوامل ووسائل متعددة، فسواء تعلق الأمر بمعرفة الطبيعة أو معرفة الإنسان ذاته،و ينبغي على الإنسان احترام مناهج تؤهله إلى إثبات الحقيقة و توصله إلى معرفة ذات قيمة موضوعية، إن التقييم العلمي و المعرفي للإنسان أتاح له فرصة السيطرة على العالم م مكنه من فهم ألغازه، فابتداء من القرن17 عرف العالم ثورات علمية بفضل اعتماد المنهج التجريبي، كانت لهذه الثورات اثر واضح في تقدم الإنسانية. غير أن هذه العلوم تطرح إشكالات فيما يتعلق بطريقة إنشائها أو التأكد من صدقها، ويتجسد ذلك خصوصا من خلال إشكال بناء النظرية العلمية و اعتماد التجارب لإثبات صدقها، كما يُطرح إشكال آخر يتعلق بعلمية العلوم الإنسانية إلى جانب إشكال تحديد مفهوم الحقيقة ضمن مجال البحث العلمي.

مفهوم الغير


الطرح الإشكالي
إن مفهوم الغير من المفاهيم الفلسفية الحديثة التي لم تحتل مركز الصدارة إلا مع فلسفة هيغل، بعدما كان كل اهتمام التفكير الفلسفي يتمحور حول الذات، وبما أن الذات قد تنتج أفكارا خاطئة حول موضوعات خارجية نتيجة خداع الحواس، فإن هذا الأمر قد يدفع إلى الشك في الغير، ووضع وجوده بين قوسين. مما يترتب عن ذلك أن إنتاج معرفة حول الغير تتميز بالاختلاف، بل احتمال عدم إنتاجها أصلا. إضافة إلى تعدد وتنوع العلاقة التي تربطنا به، وهذا ما يمكن التعبير عنه بواسطة الأسئلة الآتية
هل الغير موجود أم لا؟
هل معرفة الغير ممكنة؟ وإن كانت كذلك، كيف يمكن أن نبني هذه المعرفة؟
ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالغير؟
أولا: وجود الغير
أ– وجود الغير والصراع
يكون وعي الذات وجودا بسيطا لذاته – حسب فريدريك هيغل – تقوم ماهيته في كونه أنا. غير أن الآخر هو أيضا وعي لذاته، باعتباره لا- أنا. هكذا تنبثق ذات أمام ذات، يكون كل واحد بالنسبة للآخر عبارة عن موضوع. كل منهما متيقن من وجود ذاته، وليس متيقنا من وجود الآخر. لكن مازال لم يقدم بعد أحدهما نفسه للآخر. تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها أمام الآخر، في إظهار أنها ليست متشبثة بالحياة، وهي نفس العملية التي يقوم بها الآخر، حينما يسعى إلى موت الآخر، أي الأنا
إن وجود الغير بالنسبة للأنا – في تصور هيغل – يتم بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت، لأن على كل منهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته، وبالنسبة للآخر
ب– وجود الغير ووجود الذات
إن الموجود- هنا، باعتباره وجودا فرديا خاصا، لا يكون مطابقا لذاته – في نظر مارتن هايدغر – عندما يوجد على نمط الوجود- مع- الغير. فهذا الوجود- المشترك يذيب كليا الموجود- هنا، الذي هو وجودي الخاص، في نمط وجود الغير، بحيث يجعل الآخرين يختفون ويفقدون ما يميزهم، وما ينفردون به. مما يسمح بسيطرة الضمير المبني للمجهول. هذا المجهول ليس شخصا متعينا، إنه لا أحد، كما أن بإمكان أي كان أن يمثله
إن وجود الغير- في تصور هايدغر- يهدد وجود الذات من خلال إذابتها وسط الآخرين، ووسط المجهول
ثانيا: معرفة الغير
ب– الغير والحميمية
إن حميميتي، أي حياتي الخاصة، هي عائق أمام كل تواصل مع الغير- يقول غاستون بيرجي- حيث تجعلني سجين ذاتي. فالتجربة الذاتية وحدها هي الوجود الحقيقي بالنسبة لي، وهي تجربة غير قابلة للنقل إلى الآخر. فأنا أعيش وحيدا وأشعر بالعزلة. كما أن عالم الغير منغلق أمامي بقدر انغلاق عالمي أمامه. فعندما يتألم الغير، يمكنني مساعدته، ومواساته ومحاولة تخفيف الألم الذي يمزقه غير أن ألمه يبقى رغم ذلك. ألما خارجيا بالنسبة لذاتي، فتجربة الألم تظل تجربته الشخصية، وليست تجربتي
وهكذا تتعذر معرفة الغير- في نظر بيرجي- مادام الإنسان كائنا سجينا في آلامه، ومنعزلا في لذّاته، ووحيدا في موته، محكوما عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في التواصل

أ– الغير بنية
إن الغير ليس فردا مشخصا بعينه – حسب جيل دولوز- بل هو بنية أو نظام العلاقات والتفاعلات بين الذوات والأشخاص. يتجلى هذا النظام في المجال الإدراكي الحسي، مثلا فأنا حين أدرك الأشياء المحيطة بي، لا أدركها كلها ومن جميع جهاتها وجوانبها وباستمرار. وهذا يفترض أن يكون ثمة آخرون يدركون مالا أدركه من الأشياء، وفي الوقت الذي لا أدركه، وإلا بدت الأشياء وكأنها تنعدم حين لا أدركها وتعود إلى الوجود حين أدركها مجددا. وإذا كان هذا مستحيلا، فإن الغير إذن يشاركني إدراك الأشياء، ويكمل إدراكي لها
وهكذا يجرد دولوز الغير من معناه الفردي المشخص، ويضمنه معنى بنيويا
ثالثا: العلاقة مع الغير
أ- علاقة الصداقة
إن الصداقة باعتبارها مثالا، هي اتحاد شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحب والاحترام، في نظر إيمانويل كانط. وغاية هذا المثال هو تحقيق الخير للصديقين الذين جمعت بينهما إرادة طيبة، يتولد عن مشاعر الحب تجاذب بين الصديقين، في حين يتولد عن مشاعر الاحترام تباعد بينهما. إذا تناولنا الصداقة من جانبها الأخلاقي، فواجب الصديق تنبيه صديقه إلى أخطائه متى ارتكابها، لأن الأول يقوم بهذا التنبيه لأجل خير الثاني،وهذا واجب حب الأول للثاني. بينما تشكل أخطاء الثاني تجاه الصديق الأول إخلالا بمبدأ الاحترام بينهما
لا يجب إذن أن تقوم الصداقة- حسب كانط- على منافع مباشرة ومتبادلة، بل يجب أن تقوم على أساس أخلاقي خالص
ب- علاقة الغرابة
لقد رفضت جوليا كريستيفا المعنى اليوناني القديم لمفهوم الغريب المرتبط بالآخر، الذي نكن له مشاعر الحقد باعتباره ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة، أو ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى المجتمع. إن الغريب في نظرها يسكننا على نحو غريب. ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا، نستبعد أن نبغضه في ذاته. إن الغريب يبدأ عندما ينشأ لديّ- تقول كريستيفا- الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا وندرك أننا غرباء متمردون على الروابط والجماعات
كما انتقدت كريستيفا الدلالة الحقوقية المعاصرة للغريب التي تطلق على من لا يتمتع بمواطنة البلد الذي يقطنه، لأنها تسكت عن وضعية المختلف التي يتخذها الإنسان داخل جماعة بشرية تنغلق على نفسها مقصية المخالفين لها
استنتاجات عامة
هناك فرق بين الآخر والغير، فإذا كان الآخر هو ذلك الكائن المادي الذي يتميز بوجود واقعي إلى جانب أو في مقابل الذات، فإن الغير مفهوم فلسفي نظري يتضمن الخصائص المجردة للآخر
إن مفهوم الغير، مفهوم يتضمن معرفة متناقضة حول الآخر. فتارة يحدده كأنا آخر باعتباره متطابقا مع الذات، وطورا يحدده باعتباره لا- أنا مركزا على مظاهر التناقض مع الذات
إن العلاقة مع الغير في الحقيقة هي علاقة بصيغة الجمع، تتميز بالتعدد والتنوع. تبدأ بعلاقة الحب والاحترام والصداقة، مرورا بعلاقة الغرابة والقرابة… وتنتهي مع علاقة الصراع والتنافس والعداوة

مفهوم الشخص

الطرح الإشكالي
إن الحديث عن الشخص هو حديث عن الذات أو الأنا، والشخص هو مجموع السمات المميزة للفرد الذي هو في الأصل كيان نفسي واجتماعي متشابه مع الآخرين، ومتميز عنهم في نفس الوقت. لكن هويته ليست معطى جاهزا، بل هي خلاصة تفاعل عدة عناصر فيها ما هو بيولوجي، وما هو نفسي، وما هو اجتماعي… وهذا ما يجعلنا نطرح إشكال الشخص على شكل أسئلة فلسفية وهي
فيما تتمثل هوية الشخص؟
أين تكمن قيمته؟
هل الشخص حر في تصرفاته؟ أم يخضع لضرورات حتمية؟
أولا: الشخص والهوية
أ- الهوية والشعور
تتمثل هوية الشخص – في نظر جون لوك – في كونه كائنا عاقلا قادرا على التفكير والتأمل بواسطة الشعور الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة، حيث لا يمكن الفصل بين الشعور والفكر، لأن الكائن البشري لا يمكن أن يعرف أنه يفكر إلا إذا شعر أنه يفكر. وكلما امتد هذا الشعور ليصل إلى الأفعال والأفكار الماضية، اتسعت وامتدت هوية الشخص لتشمل الذاكرة، لأن الفعل الماضي صدر عن الذات نفسها التي تدركه في الحاضر
إن هذا الشعور، حسب لوك، هو الذي يشكل الهوية الشخصية للفرد التي تجعله يشعر أنه هو هو لا يتغير، كما تجعله يشعر باختلافه عن الآخرين
ب- الهوية والإرادة
يلاحظ آرثر شوبنهاور، أن الفرد يكبر ويشيخ، لكنه يحس في أعماقه أنه لازال هو هو كما كان في شبابه وحتى في طفولته. هذا العنصر الثابت هو الذي يشكل هوية الشخص. إلا أن شوبنهاور لا يرجع أصل الهوية إلى
الجسم : لأن هذا الأخير يتغير عبر السنين، سواء على مستوى مادته أو صورته، في حين أن الهوية ثابتة
الشعور بالذاكرة والماضي: لأن الكثير من الأحداث الماضية للفرد يطويها النسيان. كما أن إصابة في المخ قد تحرمه من الذاكرة بشكل كلي، ومع ذلك فهو لا يفقد هويته
العقل والتفكير: لأنه ليس إلا وظيفة بسيطة للمخ
إن هوية الشخص – في تصور شوبنهاور – تتمثل في الإرادة، أي في أن نريد أو لا نريد
ثانيا: قيمة الشخص
أ- قيمة الشخص في ذاته
إن الكائنات العاقلة (الأشخاص) – في تصور إيمانويل كانط – لها قيمة مطلقة، باعتبارها غاية في حد ذاتها، وليست مجرد وسيلة لغايات أخرى. في مقابل الموضوعات غير العاقلة (الأشياء) التي ليست لها إلا قيمة نسبية، قيمة مشروطة بميولات وحاجات الإنسان لها، حيث لو لم تكن هذه الميولات والحاجات موجودة، لكانت تلك الموضوعات بدون قيمة. إن لها قيمة الوسائل فقط
وهذا ما يحتم على الشخص، حسب كانط، الالتزام بمبدأ عقلي أخلاقي عملي هو: إن الطبيعة العاقلة (الشخص) توجد كغاية في ذاتها
ب– قيمة الشخص والجماعة
إن فكرة استقلال الذات المفكرة والشخص الأخلاقي، وكما تمت صياغتها من طرف الفلاسفة (ديكارت، كانط..)، لم تتحقق في الفكر الإنساني إلا في وقت متأخر، في نظر جورج غوسدورف. لكن بالرجوع إلى بداية الوجود الإنساني، وكما عاشها الناس فعليا، فإننا نجد الفرد كان يعيش ضمن الجماعة من خلال أشكال التضامن البسيطة والأساسية (الأسرة ، العشيرة، القبيلة..) التي سمحت لهذه الجماعة بالبقاء
إن قيمة الشخص إذن لا تتحدد في مجال الوجود الفردي، حسب غوسدورف. ولكن في مجال التعايش داخل المجموعة البشرية
ثالثا: الشخص بين الضرورة والحرية
أ– الشخص والضرورة
لقد أقر سيغموند فرويد للأنا بوجود مستقل، كأحد مكونات الجهاز النفسي للشخصية، وله نشاط شعوري يتمثل في الإدراك الحسي الخارجي والإدراك الحسي الداخلي، والعمليات الفكرية. ويضطر للخضوع لثلاث ضغوطات متناقضة، وهي الهو الذي يتمثل في الدوافع الفطرية والغريزية. والأنا الأعلى الذي يتجلى في الممنوعات الصادرة عن المثل الأخلاقية، والعقاب الذي تمارسه بواسطة تأنيب الضمير. إضافة، إلى الحواجز التي يضعها العالم الخارجي والاجتماعي
إن الأنا يخضع، حسب فرويد، لضرورات الهو، والأنا الأعلى، والعالم الخارجي
ب– الشخص والحرية
إن الإنسان – حسب ج.ب. سارتر – يوجد أولا، أي ينبثق في هذا العالم، ثم يتحدد بعد ذلك وفق ما سيصنع بنفسه، وكما يريد أن يكون في المستقبل. إن الإنسان مشروع يعاش بكيفية ذاتية. هذا الكائن المادي يتجاوز دائما الوضعية التي يوجد فيها، ويحددها، وذلك بالتعالي عليها لكي يتموضع بواسطة الشغل أو الفعل أو الحركة في إحدى الإمكانات المتاحة أمامه. وبما أن هذه الوثبة تتخذ أشكالا متنوعة بحسب الأفراد، فإننا نسميها كذلك اختيارا وحرية
إن الشخص، في نظر سارتر، يتمثل قي قدرته على الحرية في الاختيار
استنتاجات عامة
إن هوية الشخص ليست معطى بسيطا، بل هي عنصرا مركبا يتشكل من مجموع السمات التي تميز ذات الإنسان، والتي تتجلى في الخصائص الجوهرية والثابتة فيه كالعقل، والشعور، والإرادة
إن قيمة الشخص ذات طبيعة مزدوجة، فهي قيمة تمسه كفرد يمتلك كرامة تلزمنا أن نتعامل معه كغاية في ذاته. كما تمسه كعنصر داخل الجماعة ما دامت الجماعة هي التي تمنح الفرد قيمته
إن الشخص يخضع لمجموعة من الشروط التي تتحكم في أفعاله وتصرفاته، لكنه في نفس الوقت يمتلك هامشا من الحرية، يستطيع من خلاله أن يعدّل، إن لم نقل يغير تلك الشروط 

المجزوءة الأولى:الوضع البشري

رأينا في مستهل مجزوءة الإنسان، في السنة الأولى باكلوريا، إن الإنسان هو ذلك الكائن الذي هو في بحث مستمر في ذاته، و الذي ينبغي عليه في كل لحظة أن يفحص بدقة شروط وجوده ووضعه البشري. لأن الفحص النقدي و الدقيق للذات و الوضع البشري بشكل عام هو الذي يمنح الإنسان قيمته الحقيقة.

و الحديث عن الوضع البشري يستهدف التأكيد على أن الإنسان ليس ماهية مجردة، غير مقيدة بزمان أو مكان ، بل هو كائن مرتبط بالمجال الذي يتحقق فيه و يتحمل فيه مسؤولية وجوده.

ويعنى الوضع البشري في معناه الحصري، وضع الإنسان داخل المجتمع و مكانته في التراتبية الاجتماعية، كما يعني في معناه العام كل ما يميز وجود الإنسان، أي نمط وجوده في العالم. وقد سبق لبليز باسكال (1623-1662) أن ميزة بين ما يسميه الوضع الاجتماعي للإنسان الذي يرتبط بالمعطيات الاجتماعية التي تشرط وجوده. و بين ما يسمه بالوضع البشري، ويقصد به وضع الإنسان في العالم، باعتباره كانما يتحمل مسؤولية وجوده….

وهكذا يشير الوضع البشري الذي يتميز بتعقده و بتعدد محدداته (المحدد الذاتي- المحدد الموضوعي- المحدد التاريخي) و بتعدد أبعاده التي نميز فيها بين: 

-  بعد الوجود الذاتي المحدد بالوعي و القدرة على تمثل الذات و تملكها من خلال التفكير، ويحيل هذا البعد على الشخص.

- بعد الوجود العلائقي المتمثل في علاقة الذات مع الغير.

-بعد تاريخي، على اعتبار أن الإنسان، كفرد و مجتمع، هو منتج للتاريخ مثلما هو نتاج للتاريخ…

 و يتميز الوضع البشري بطابعه الإشكالي، الذي يمكن التعبير عنه من خلال الأسئلة التالية:

كيف يتحدد وجود الإنسان بوصفه شخصا؟ وما طبيعة علاقة الشخص بالغير؟ وما الدور الذي يلعبه الغير في تشكيل الأنا؟ وهل وجود الإنسان بوصفه شخصا محكوم بالضرورة أم هو قائم على الحرية؟