الحرية مطلب و شعار إنساني ، تدعي الأنظمة السياسية الحاكمة تطبيقه ، و تناضل  المنظمات الحقوقية و القوى السياسية التقدمية و التحررية من أجله إحقاقه . و لقد  ظلت الحرية على مَرِّ التاريخ البشري قضية صراع ، اتفق حولها  كقيمة و  حق ، لكن اختلف حول مضمونها و طرق تطبيقها .  و هذا ما جعلها مفهوما  مُلتبسا بل و معضلة سياسية و أخلاقية ، احتار و اختلف الفلاسفة ورجال السياسة حولها  و راح ضحية النضال من أجلها رجال . فما الحرية ؟ و هل الإنسان حر في أفعاله أم أنه  خاضع لقوى خارجة عن إرادته (عوامل طبيعية شروط اجتماعية و مشيئة إلهية ) ؟ و ما  الإرادة ؟ و هل الإنسان حر لفعل ما يريد  أم أنه حر فقط  في حدود ما تسمح به قوانين  المجتمع ؟ و هل القانون ضامن للحريات أم تضييق عليها ؟ و هل وُضِع القانون لصيانة  الحريات أم لمنعها ؟ و هل في الخضوع للقانون نفي للحرية ؟ و هل في ممارسة الإنسان  لحريته خرق و تجاوز للقانون ؟ هل حرية الإنسان في تمرده على القانون أم في العمل به  ؟ من أين تستمد الحرية مشروعيتها : من الإرادة أم من القانون ؟ و هل الحرية هي ما  يتضمنه القانون أم ما تستطيعه الإرادة ؟ و هل هو فاعل بحسب الإرادة أم الواجب  ؟
     يميز الفيلسوف الألماني ليبنتز  (1646-1716) بين الحرية كحق وبين الحرية كممارسة ،( ففي النظام  العبودي ليس للعبد الحق في الحرية ، لكن السيد له الحق في الحرية كما له الحق في  ممارستها . و تقوم الحرية على قدرة الإرادة على فعل ما يجب القيام به . و يميز أيضا  هوبز بين الحرية الطبيعية  التي  تقوم على الحق في استعمال القوة للحفاظ علي الحق في الحياة  و هي حرية تؤدي إلى  الفوضى ؛ و الحرية المدنية التي  تمارس وفق القوانين التعاقدية الضامنة لحق الفرد شريطة ألا يضر ذلك بحقوق الغير  .
   الحرية عموما حق الإنسان في فعل أمر  أو تركه دون أن يتعرض لعقوبة و دون أن يعرض حياة غيره لخطر .  فهل فعل من هذا النوع  ممكن في غياب الأخلاق و الدولة ؟  يرى البعض أن الحرية ليست في أن يفعل الشخص ما  يريد بل في أن لا يُكْرَه على فعل ما لا يريد . و يرى البعض الآخر في أنها هي  القدرة الذاتية على التخلص من التبعية و تحويل العوامل المتحكمة فيه إلى عوامل  يتحكم فيها .
  1)- الحرية و الحتمية :
   يرى البعض أن الحديث عن الحرية لا  يستقيم إلا بالحديث عن نقيضها أي عن الجبرية و الحتمية . فما الحتمية ؟ و  ما الجبرية ؟ فالحتمية  اتجاه علمي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب، و أنه كلما توفرت نفس الأسباب حصلت بالضرورة  نفس الأسباب ، فالحتمية  نفي للصدفة و الفوضى و تأكيد على وجود نظام صارم . أما  الجبرية  فاتجاه ديني ينسب كل شيء  للذات الإلهية و تنفي عن الإنسان كل قدرة عن الفعل ، فالفاعل الوحيد  الحق هو الله  ، و الإنسان مسير . و إذا كانت الاتجاهات  الدينية في القرون الوسطى قد نظرت إلى الحرية كفعل إنساني في علاقته  بالإرادة الإلهية ، فإن العلوم  الإنسانية كشفت عن الشروط الواقعية ( البيولوجية و النفسية اللاشعورية و  الاجتماعية ) المحددة لسلوك الشخص و حريته . و في هذا الإطار نجد الفيلسوف العربي  المسلم ابن رشد (1126-1198) ينتقد الجبرية. فالجبرية  تؤكد خضوع الإنسان للمشيئة  الإلهية و تنفي توفره على أية قدرة على الفعل ، فالله هو وحده الفاعل و لا فاعل  سواه . أما ابن رشد فيبين  أن  الله تعالى خلق الإنسان في عالم ، فوهبه قدرات ذاتية  على الفعل و الترك ، وجعل للعالم نظاما . فأفعال الإنسان إذا مشروطة بالنظام الذي أوجده  الله في الكون ، و بالفطرة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها . و الإنسان  ليس مسؤولا عن تصرفاته إلا لأنه حر ، و هو ليس حرا  في تحدي الإرادة الإلهية و خرق  النظام الكوني . إن الحرية عند ابن رشد مشروطة بنظام من الأسباب التي خلقها الله في  أبداننا و التي أوجدها في العالم الخارجي . و عليه فالحرية هي قدرة الإنسان  الذاتية على إتيان أفعاله في توافق و انسجام مع نظام الكون و نظام الذات  .
   وفي نفس السياق و لكن من وجهة نظر  مخالفة ينتقد ميرلوبانتي الفيلسوف الفرنسي (1908-1961) موقف الفلسفة الوجودية و  تصور العلوم الإنسانية الوضعية . فالفلسفة الوجودية ترى أن الإنسان ليس  فقط كائنا حرا بل إنه كائن محكوم عليه بالحرية ، و أنه يتحدد طبقا لما يفعله بحرية  . إنه حر في الأصل و الماهية ، و الظروف هي التي زَيَّفَتْ أصالة وجوده . و العلوم الإنسانية تعاملت مع الإنسان  لا ككائن في ذاته كما تصورته الفلسفات المثالية بل ككائن في وضع تحكمه عوامل  بيولوجية ، و توجهه دوافع نفسية لاشعورية ، و تشرطه إكراهات اجتماعية . فالعلوم  الإنسانية حولت الإنسان إلى آلة مبرمجة ، و أفقدته ذاتيته و فاعليته . فالحرية كما  يراها ليبنتز وَهْمٌ ، فنحن في الواقع خاضعون لحتميات تشرط كل سلوكاتنا ، غير أن  جهلنا بالأسباب هو ما يجعلنا نتوهم أننا أحرار . غير أن ميرلوبانتي يؤكد من خلال  نقده أن الإنسان حر في موقف (وضع) ، و أن حريته في قدرته على تحويل العوامل  المتحكمة فيه إلى عوامل هو الذي يتحكم فيها و يوظفها لتحقيق اختياراته في حدود ما  تسمح به الشروط . فالإنسان قادر على تعديل شروط وجوده لبناء ذاته و تحديد مصيره ،  و بذلك تصير الحرية تحررا أي فعلا يمارسه الإنسان في وضع لبناء ذاته و  تغيير و تعديل  شروط ظروفه . فهل حريته في فعل ما يريد ؟
  2)- الحرية و الإرادة :
  إذا كان رجال اللاهوت تأملوا الحرية  في علاقاتها مع المشيئة الإلهية ، و العلوم الإنسانية سعت إلى الكشف عن العوامل  الموضوعية المتحكمة في السلوك الإنساني ، فإن فلاسفة عصر الأنوار ربطوا بين الحرية  و الإرادة . الإرادة هي ملكة  الفعل الحر و القدرة على انجازه . و يشترط  التخلص من الضرورة وجود إرادة حرة . فما  علاقة الحرية بالإرادة ؟ و هل حرية إرادته في مسايرة ميوله الطبيعية أم في التحكم  فيها ؟
    يميز كانط (1724-1804) بين نوعين  من الموجودات : الكائنات الطبيعية التي تستعمل كوسائل  يتم استغلالها ، و الكائنات  الإنسانية التي ينظر إليها كقيمة أخلاقية تستحق التقدير و الاحترام لأنها كائنات  عاقلة و حرة . و الحرية خاصية لكل كائن عاقل له إرادة ، فهو حر لأن له إرادة . و يعرف الحرية بأنها ‘‘ استقلال الإنسان عن أي  شيء إلا القانون الأخلاقي .’’  فحرية الإرادة تتجلى في قدرة الإنسان على السيطرة  إلى ميوله و نزواته الطبيعية التي تهبط به إلى مصاف الحيوانات ، و العمل بمقتضى  القانون الأخلاقي الذي يُسَطِّرُه العقل . إن حرية الإرادة عند كانط هي  إرادة خيرة تعمل بالواجب الأخلاقي لا  وفق الضرورة الطبيعية . فحرية الإرادة ليست في الخضوع للميول و الشهوات الطبيعية   بل في العمل بما يفرضه عليه العقل من قوانين أخلاقية . فمجال حرية الإرادة هو  الأخلاق ، أي  في فعل الخير . فالإنسان حر في  فعل الخير و العمل  بالفضائل لا في  فعل الشر و الرذائل . و أن مسايرة  الأخلاق اختيار لكن مسايرة الميول ضرورة .
   أما الفيلسوف الألماني فريدريك  نيتشه (1844-1900) فيعتبر الأخلاق غريبة  عن  الحياة ، لأنها تُوهِمُ بوجود عالم لا وجود له ، وأنها بحث عن الكمال  خارج الحياة الواقعية ، فالحياة فعل و قوة لا أخلاقٌ . و ليست القيم الأخلاقية في  نظره سوى أوهاما و حِيَلاً اخترعها الضعفاء من الناس لمواجهة الأقوياء في الصراع من  أجل الحياة خدعوا بها الأقوياء كما خدعوا بها أنفسهم . فالأخلاق خدمةٌ لمبادئ غريبة  عن الحياة . و هذا ما جعل إرادة الضعفاء إرادة عدم تزهد في الحياة و تتنكر لها .  لقد صارت البشرية عبيد أوهام اخترعوها لإفساد الحياة . و عليه فإن نيتشه يدعو  للتحرر من تلك الأوهام بإرادة الحياة التي هي إرادة القوة . إن إرادة الحرية هي إرادة القوة لا إرادة  الخير . و التحرر لا يكون بالزهد في الحياة  و إنكارها، لأن الزهد يمنع الإنسان أن  يكون إنسانا على الأرض . و عليه فإن  الحرية هي التخلص من قيم الزهد في الحياة التي انتشرت مع الكنيسة المسيحية وكل  الاتجاهات اللاهوتية .
 و إذا كانت الحرية عند كانط في انتصار المبادئ الأخلاقية ، فإن الحرية   عند نيتشه هي انتصار الميول  الطبيعية .
  3) – الحرية و القانون :
  الإنسان في نظر أنصار العقد  الاجتماعي ولد حرا ، وحريته في ممارسة قوته الطبيعية التي تصطدم بقوة أخرى ، و ينشأ  عن ذلك حالة حرب يفقد فيها الإنسان أمنه و حريته و حياته . و لذلك كانت الضرورة  تقتضي وضع حد لحالة الحرب و الخروج من حالة الطبيعة بقيام دولة تصدر قوانين . فما القانون ؟ و هل القانون وضع لحماية  الحريات أم لمنعها ؟ وهل حرية الإنسان في استعمال قوته الفردية أم في لجوئه إلى  القوة العمومية التي تحميه ؟ القانون إلزام و الحرية اختيار، فكيف يمكن المواءمة  بين القانون و الحرية ؟ و هل الحرية عمل ضد القانون أم عمل في إطار القانون ؟ و هل  القانون إجراء لتعطيل الحريات أم إطار لممارستها ؟ ألا يجعل القانون الحرية نسبية  لأنه يحميها و في نفس الوقت يحدها ؟ و هل الإنسان خارج القانون حر ؟  
   يربط الفيلسوف الفرنسي  مونتسكيو(1689-1755) بين الحرية و النظام السياسي الديمقراطي القائم على فصل  السلطات . فالحرية في نظره ليست في أن يفعل المواطن ما يريد  بل هي أن يعمل ما تجيزه له القوانين  العادلة . فمهمة القوانين هي تنظيم العلاقات بين الناس في المجتمع لضمان  الحريات . فالحرية هي في احترام القانون و العمل به ، و أن لا حرية خارج القانون .  لكن ألا يؤدي الالتزام بالقانون إلى نفي الحرية ؟      
    و ترى الفيلسوفة الألمانية الأصل  حنا أرندت (1906-1975) أن الحرية ليست مسألة أخلاقية باطنية بل إنها مسألة سياسية تتعلق بنظام يعمل  على تعايش الحريات و يوفر إمكانيات الفعل و التفكير و التعبير . فالحرية نشاط واع  يمارسه المواطنون في ظل نظام سياسي للمطالبة بحقوقهم ورفع الغبن و القهر عنهم .  و  الإنسان لا يعي حريته بذاته بل في علاقاته مع غيره و مع مؤسسات الدولة بالانتظام في  مؤسسات المجتمع المدني لمنع هيمنة الدولة على المجتمع و وضع حد لكل إمكانية التسلط  . و بذلك تتحول الحرية إلى تحرر أي إلى حركة واعية و متواصلة لتنظيم العلاقات بين  السلط لتعمل كل سلطة في مجال اختصاصها على حماية الحريات كحق سياسي .
   الحرية إذا حق يرتبط بالأخلاق و تنظمه القوانين  و يشرف على حمايته نظام سياسي عادل .
