السبت، 30 أبريل 2011

الحرية

الحرية مطلب و شعار إنساني ، تدعي الأنظمة السياسية الحاكمة تطبيقه ، و تناضل المنظمات الحقوقية و القوى السياسية التقدمية و التحررية من أجله إحقاقه . و لقد ظلت الحرية على مَرِّ التاريخ البشري قضية صراع ، اتفق حولها  كقيمة و حق ، لكن اختلف حول مضمونها و طرق تطبيقها .  و هذا ما جعلها مفهوما مُلتبسا بل و معضلة سياسية و أخلاقية ، احتار و اختلف الفلاسفة ورجال السياسة حولها و راح ضحية النضال من أجلها رجال . فما الحرية ؟ و هل الإنسان حر في أفعاله أم أنه خاضع لقوى خارجة عن إرادته (عوامل طبيعية شروط اجتماعية و مشيئة إلهية ) ؟ و ما الإرادة ؟ و هل الإنسان حر لفعل ما يريد  أم أنه حر فقط  في حدود ما تسمح به قوانين المجتمع ؟ و هل القانون ضامن للحريات أم تضييق عليها ؟ و هل وُضِع القانون لصيانة الحريات أم لمنعها ؟ و هل في الخضوع للقانون نفي للحرية ؟ و هل في ممارسة الإنسان لحريته خرق و تجاوز للقانون ؟ هل حرية الإنسان في تمرده على القانون أم في العمل به ؟ من أين تستمد الحرية مشروعيتها : من الإرادة أم من القانون ؟ و هل الحرية هي ما يتضمنه القانون أم ما تستطيعه الإرادة ؟ و هل هو فاعل بحسب الإرادة أم الواجب ؟
    يميز الفيلسوف الألماني ليبنتز (1646-1716) بين الحرية كحق وبين الحرية كممارسة ،( ففي النظام العبودي ليس للعبد الحق في الحرية ، لكن السيد له الحق في الحرية كما له الحق في ممارستها . و تقوم الحرية على قدرة الإرادة على فعل ما يجب القيام به . و يميز أيضا هوبز بين الحرية الطبيعية  التي تقوم على الحق في استعمال القوة للحفاظ علي الحق في الحياة  و هي حرية تؤدي إلى الفوضى ؛ و الحرية المدنية التي تمارس وفق القوانين التعاقدية الضامنة لحق الفرد شريطة ألا يضر ذلك بحقوق الغير .
   الحرية عموما حق الإنسان في فعل أمر أو تركه دون أن يتعرض لعقوبة و دون أن يعرض حياة غيره لخطر .  فهل فعل من هذا النوع ممكن في غياب الأخلاق و الدولة ؟  يرى البعض أن الحرية ليست في أن يفعل الشخص ما يريد بل في أن لا يُكْرَه على فعل ما لا يريد . و يرى البعض الآخر في أنها هي القدرة الذاتية على التخلص من التبعية و تحويل العوامل المتحكمة فيه إلى عوامل يتحكم فيها .
  1)- الحرية و الحتمية :
   يرى البعض أن الحديث عن الحرية لا يستقيم إلا بالحديث عن نقيضها أي عن الجبرية و الحتمية . فما الحتمية ؟ و ما الجبرية ؟ فالحتمية اتجاه علمي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب، و أنه كلما توفرت نفس الأسباب حصلت بالضرورة نفس الأسباب ، فالحتمية  نفي للصدفة و الفوضى و تأكيد على وجود نظام صارم . أما الجبرية  فاتجاه ديني ينسب كل شيء للذات الإلهية و تنفي عن الإنسان كل قدرة عن الفعل ، فالفاعل الوحيد  الحق هو الله ، و الإنسان مسير . و إذا كانت الاتجاهات الدينية في القرون الوسطى قد نظرت إلى الحرية كفعل إنساني في علاقته بالإرادة الإلهية ، فإن العلوم الإنسانية كشفت عن الشروط الواقعية ( البيولوجية و النفسية اللاشعورية و الاجتماعية ) المحددة لسلوك الشخص و حريته . و في هذا الإطار نجد الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (1126-1198) ينتقد الجبرية. فالجبرية  تؤكد خضوع الإنسان للمشيئة الإلهية و تنفي توفره على أية قدرة على الفعل ، فالله هو وحده الفاعل و لا فاعل سواه . أما ابن رشد فيبين  أن  الله تعالى خلق الإنسان في عالم ، فوهبه قدرات ذاتية على الفعل و الترك ، وجعل للعالم نظاما . فأفعال الإنسان إذا مشروطة بالنظام الذي أوجده الله في الكون ، و بالفطرة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها . و الإنسان ليس مسؤولا عن تصرفاته إلا لأنه حر ، و هو ليس حرا  في تحدي الإرادة الإلهية و خرق النظام الكوني . إن الحرية عند ابن رشد مشروطة بنظام من الأسباب التي خلقها الله في أبداننا و التي أوجدها في العالم الخارجي . و عليه فالحرية هي قدرة الإنسان الذاتية على إتيان أفعاله في توافق و انسجام مع نظام الكون و نظام الذات .
   وفي نفس السياق و لكن من وجهة نظر مخالفة ينتقد ميرلوبانتي الفيلسوف الفرنسي (1908-1961) موقف الفلسفة الوجودية و تصور العلوم الإنسانية الوضعية . فالفلسفة الوجودية ترى أن الإنسان ليس فقط كائنا حرا بل إنه كائن محكوم عليه بالحرية ، و أنه يتحدد طبقا لما يفعله بحرية . إنه حر في الأصل و الماهية ، و الظروف هي التي زَيَّفَتْ أصالة وجوده . و العلوم الإنسانية تعاملت مع الإنسان لا ككائن في ذاته كما تصورته الفلسفات المثالية بل ككائن في وضع تحكمه عوامل بيولوجية ، و توجهه دوافع نفسية لاشعورية ، و تشرطه إكراهات اجتماعية . فالعلوم الإنسانية حولت الإنسان إلى آلة مبرمجة ، و أفقدته ذاتيته و فاعليته . فالحرية كما يراها ليبنتز وَهْمٌ ، فنحن في الواقع خاضعون لحتميات تشرط كل سلوكاتنا ، غير أن جهلنا بالأسباب هو ما يجعلنا نتوهم أننا أحرار . غير أن ميرلوبانتي يؤكد من خلال نقده أن الإنسان حر في موقف (وضع) ، و أن حريته في قدرته على تحويل العوامل المتحكمة فيه إلى عوامل هو الذي يتحكم فيها و يوظفها لتحقيق اختياراته في حدود ما تسمح به الشروط . فالإنسان قادر على تعديل شروط وجوده لبناء ذاته و تحديد مصيره ، و بذلك تصير الحرية تحررا أي فعلا يمارسه الإنسان في وضع لبناء ذاته و تغيير و تعديل  شروط ظروفه . فهل حريته في فعل ما يريد ؟
  2)- الحرية و الإرادة :
  إذا كان رجال اللاهوت تأملوا الحرية في علاقاتها مع المشيئة الإلهية ، و العلوم الإنسانية سعت إلى الكشف عن العوامل الموضوعية المتحكمة في السلوك الإنساني ، فإن فلاسفة عصر الأنوار ربطوا بين الحرية و الإرادة . الإرادة هي ملكة الفعل الحر و القدرة على انجازه . و يشترط  التخلص من الضرورة وجود إرادة حرة . فما علاقة الحرية بالإرادة ؟ و هل حرية إرادته في مسايرة ميوله الطبيعية أم في التحكم فيها ؟
    يميز كانط (1724-1804) بين نوعين من الموجودات : الكائنات الطبيعية التي تستعمل كوسائل  يتم استغلالها ، و الكائنات الإنسانية التي ينظر إليها كقيمة أخلاقية تستحق التقدير و الاحترام لأنها كائنات عاقلة و حرة . و الحرية خاصية لكل كائن عاقل له إرادة ، فهو حر لأن له إرادة . و يعرف الحرية بأنها ‘‘ استقلال الإنسان عن أي شيء إلا القانون الأخلاقي .’’  فحرية الإرادة تتجلى في قدرة الإنسان على السيطرة إلى ميوله و نزواته الطبيعية التي تهبط به إلى مصاف الحيوانات ، و العمل بمقتضى القانون الأخلاقي الذي يُسَطِّرُه العقل . إن حرية الإرادة عند كانط هي  إرادة خيرة تعمل بالواجب الأخلاقي لا وفق الضرورة الطبيعية . فحرية الإرادة ليست في الخضوع للميول و الشهوات الطبيعية  بل في العمل بما يفرضه عليه العقل من قوانين أخلاقية . فمجال حرية الإرادة هو الأخلاق ، أي  في فعل الخير . فالإنسان حر في  فعل الخير و العمل  بالفضائل لا في فعل الشر و الرذائل . و أن مسايرة الأخلاق اختيار لكن مسايرة الميول ضرورة .
   أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) فيعتبر الأخلاق غريبة عن  الحياة ، لأنها تُوهِمُ بوجود عالم لا وجود له ، وأنها بحث عن الكمال خارج الحياة الواقعية ، فالحياة فعل و قوة لا أخلاقٌ . و ليست القيم الأخلاقية في نظره سوى أوهاما و حِيَلاً اخترعها الضعفاء من الناس لمواجهة الأقوياء في الصراع من أجل الحياة خدعوا بها الأقوياء كما خدعوا بها أنفسهم . فالأخلاق خدمةٌ لمبادئ غريبة عن الحياة . و هذا ما جعل إرادة الضعفاء إرادة عدم تزهد في الحياة و تتنكر لها . لقد صارت البشرية عبيد أوهام اخترعوها لإفساد الحياة . و عليه فإن نيتشه يدعو للتحرر من تلك الأوهام بإرادة الحياة التي هي إرادة القوة . إن إرادة الحرية هي إرادة القوة لا إرادة الخير . و التحرر لا يكون بالزهد في الحياة  و إنكارها، لأن الزهد يمنع الإنسان أن يكون إنسانا على الأرض . و عليه فإن الحرية هي التخلص من قيم الزهد في الحياة التي انتشرت مع الكنيسة المسيحية وكل الاتجاهات اللاهوتية .
 و إذا كانت الحرية عند كانط في انتصار المبادئ الأخلاقية ، فإن الحرية  عند نيتشه هي انتصار الميول الطبيعية .
  3) – الحرية و القانون :
  الإنسان في نظر أنصار العقد الاجتماعي ولد حرا ، وحريته في ممارسة قوته الطبيعية التي تصطدم بقوة أخرى ، و ينشأ عن ذلك حالة حرب يفقد فيها الإنسان أمنه و حريته و حياته . و لذلك كانت الضرورة تقتضي وضع حد لحالة الحرب و الخروج من حالة الطبيعة بقيام دولة تصدر قوانين . فما القانون ؟ و هل القانون وضع لحماية الحريات أم لمنعها ؟ وهل حرية الإنسان في استعمال قوته الفردية أم في لجوئه إلى القوة العمومية التي تحميه ؟ القانون إلزام و الحرية اختيار، فكيف يمكن المواءمة بين القانون و الحرية ؟ و هل الحرية عمل ضد القانون أم عمل في إطار القانون ؟ و هل القانون إجراء لتعطيل الحريات أم إطار لممارستها ؟ ألا يجعل القانون الحرية نسبية لأنه يحميها و في نفس الوقت يحدها ؟ و هل الإنسان خارج القانون حر ؟  
   يربط الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو(1689-1755) بين الحرية و النظام السياسي الديمقراطي القائم على فصل السلطات . فالحرية في نظره ليست في أن يفعل المواطن ما يريد  بل هي أن يعمل ما تجيزه له القوانين العادلة . فمهمة القوانين هي تنظيم العلاقات بين الناس في المجتمع لضمان الحريات . فالحرية هي في احترام القانون و العمل به ، و أن لا حرية خارج القانون . لكن ألا يؤدي الالتزام بالقانون إلى نفي الحرية ؟      
    و ترى الفيلسوفة الألمانية الأصل حنا أرندت (1906-1975) أن الحرية ليست مسألة أخلاقية باطنية بل إنها مسألة سياسية تتعلق بنظام يعمل على تعايش الحريات و يوفر إمكانيات الفعل و التفكير و التعبير . فالحرية نشاط واع يمارسه المواطنون في ظل نظام سياسي للمطالبة بحقوقهم ورفع الغبن و القهر عنهم .  و الإنسان لا يعي حريته بذاته بل في علاقاته مع غيره و مع مؤسسات الدولة بالانتظام في مؤسسات المجتمع المدني لمنع هيمنة الدولة على المجتمع و وضع حد لكل إمكانية التسلط . و بذلك تتحول الحرية إلى تحرر أي إلى حركة واعية و متواصلة لتنظيم العلاقات بين السلط لتعمل كل سلطة في مجال اختصاصها على حماية الحريات كحق سياسي .
   الحرية إذا حق يرتبط بالأخلاق و تنظمه القوانين و يشرف على حمايته نظام سياسي عادل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق