الجمعة، 29 أبريل 2011

الواجب

 الواجب

    يقول إريك فايل : " يشكل الواجب المقولة الأساسية و الوحيدة للأخلاق ." و كما أن للإنسان حقوقا ، فعليه واجبات ؛ فحقهم واجب عليه ، و حقه واجب عليهم . فما الواجب ؟ و هل الواجب إكراه أم قدرة ، إلزام أم التزام ؟ و هل الوعي الأخلاقي بالواجب فطري أم مكتسب ؟ و هل أساس الوعي به هو الطبيعة أم المجتمع ؟ و هل الواجب هو ما يفرضه علينا المجتمع أم يلزمنا به الانتماء للإنسانية ؟ هل الإنسان فرد في مجتمع أم عضو في المملكة الإنسانية ؟  
   الواجب هو ما يُلزم الإنسانُ أخلاقيا للقيام به استجابة لنداء الضمير، إنه ما يجد الإنسان نفسه مطالبا بأدائه طِبْقا أو احتراما ، كَرْها أو طوعا ، للعمل بالقيم الأخلاقية  في حياته الاجتماعية دون تقصير أو تهاون ، لا نفاقا أو رياء و لا استجابة لمصلحة. فالواجب إذا هو احترام و عمل بالفضائل . و لقد اختلف الفلاسفة حول ما إذا كان الواجب هو ما نؤمر به و نُكْرَهُ على فعله  أم ما نقدر على القيام به ؟  
    1)-  هل الواجب إكراه  أم قدرة ؟
  يرى كانط (1724-1804) أن الأخلاق تقوم على الواجب ، و الإنسان مطالب بأداء الواجب لا طبقا للقانون الأخلاقي بل احتراما له  ( أي أنه لا يسرق خوفا من عقاب القانون بل احتراما خالصا للقانون). و الواجب هو العمل بالقانون الأخلاقي الذي يفرضه العقل العملي و تعمل به الإرادة الخيرة لإقصاء الميول و التخلص من تأثيرها  . فالإنسان بميوله يظل حيوانا ينتمي لمملكة الضرورة الطبيعية . و لن تكون الإرادة خيرة إلا إذا ارتبطت بالعقل و التزمت بقوانينه . فالواجب إذا هو ما يقره العقل و ما تعمل به الإرادة الخيرة من الفضائل . و الإنسان إذ يختار العمل بالقواعد الأخلاقية يكون ملزما على العمل بها للتحرر من سيطرة الميول الغريزية عليه . و بذلك تكون الأخلاق عند كانط أوامر قطعية مطلقة لا تراعي ظروفه و لا قدراته ،  و يكون العمل بها قهرا و إكراها لميوله الطبيعية  .
    غير أن جان ماري غويو (1854-1888) ينتقد مفهوم الواجب كأمر مطلق ، مؤكدا أن الواجب ليس أمرا نُرْغَم على فعله بل قدرة ذاتية طبيعية و تلقائية على فعل عظيم  مقدور عليه تتدفق به الحياة و تسمو . فالأخلاق في نظره ليست في أن يُلزَم المرء بما لا يستطيعه ، و إلا كُلِّفَ بما ليس في طاقته ، و في هذا ظلم له ، و ما فيه ظلم و قهر فهو متعارض مع الأخلاق . و لذلك فالواجب هو ما يكون باستطاعة المرء القيام به من أفعال عظيمة. و ما ليس باستطاعة الإنسان فعله فمعفى منه و ليس واجبا عليه و لا يعاقب على تركه ؛ و القيام بما في مقدوره لا يستحق عليه ثوابا . و بذلك يؤسس غويو أخلاقا بدون عقاب و لا ثواب ، لأن العمل بها يتلاءم مع طبيعة الإنسان . و يشبه غويو الواجب بازدهار النبتة ، فمن طبيعة النبتة أن تنمو ، و كذلك الواجب بالنسبة للإنسان ، إنه من طبيعته ، تلقائي فيه . فالواجب هو ما يتلاءم مع طبيعة الإنسان و ما يكون بقدرته القيام به من أفعال عظيمة و جليلة تتدفق بها الحياة و تمضي بها قدما ؛ فالحياة قد تُعطَّل إذا لم تكن القدرة على الفعل متناسبة مع الواجب . إن تصور غويو للواجب هو تصور طبيعي يتعارض مع التصورات الغيبية التي تعتبره  أمرا قطعيا . فالواجب ليس شعورا بضغط بل شعور بقدرة على فعل عظيم ، و لم يعد الواجب إكراها خارجيا  بل قدرة إنسانية فعالة  .
     2) – الوعي الأخلاقي  بالواجب :
      و سواء كان الواجب إكراها أو قدرة فإنه يشترط وعيا ، فما الوعي الأخلاقي بالواجب ؟ و هل هو فطري أم مكتسب ؟
    الوعي عموما هو ملكة إنسانية للإدراك و التمييز ، و يميز الفلاسفة بين نمطين من الوعي : الوعي المعرفي و الوعي الأخلاقي ، فالوعي المعرفي هو تلك لقدرة العقلية التي يتم بها السعي للعلم بحقائق الذات و الواقع ؛ أما الوعي الأخلاقي فهو تلك الملكة العملية التي يتم بها التمييز بين الفضائل و الرذائل  و العمل بالفضائل . و يطلق على هذا النمط من الوعي الضمير .
   و يعتبر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) أن الوعي الأخلاقي هبة إلهية أودعتها الإرادة الإلهية في أعماق النفس الإنسانية ، بها نحب و نقدر على فعل الخير ، و بها نتميز و نسمو عن مرتبة البهائم ؛ إنها مرشدنا  المضمون نحو الفضيلة و العاصم لنا من  الشرور و الرذائل . و لا يحتاج الإنسان إلى بعثة رسل أو اطلاع على نظرية للإحساس بالواجب و محبة الخير ، فللإنسان وعي فطري بالخير و الشر  ، يقول روسو :‘‘ كل ما أحسه شرا فهو شر ، و الضمير هو خير الفقهاء ’’ . و إذا كانت الدوافع البيولوجية تدفعنا للصراع و العنف ، فإن الضمير هو الذي يقربنا و يوحد بيننا ، فالحياة الاجتماعية لا تستقيم بالحاجة البيولوجية  بل بالوعي الأخلاقي  الفطري . 
   أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900 ) فيعترض على أن يكون الوعي بالواجب أمرا فطريا . فالواجب في نظره هو نتيجة تاريخية لظاهرة المديونية التي اضطر إليها الضعفاء من الناس . و لقد اشترط الدائن على المدين شروطا التزم المدين بقبولها كواجبات عليه ، وهي أن يسدد الدَّيْن الذي عليه  في وقته ، و إن عجز فيجوز للدائن القصاص منه بتعذيبه أو استعباده أو بتر عضو من أعضائه  أو قتله كأسلوب لاسترداد الدَّيْن الذي في ذمته . فالواجب إذا هو نتيجة تعاقد بين الدائن و المدين ، فرض الدائن بموجبه شروطا قاسية و عنيفة و قًََبِلَ  بها المدين . و لذلك لا يُعْقل تجاهل الشروط التاريخية التي سببت نشأة الوعي بالواجب . و عليه فالواجب هو ما أُكره عليه المدين من قبل الدائن في ظروف تاريخية . فلقد مَثَّل الواجب رغبة الأقوياء في إيذاء الضعفاء و الاستمتاع بممارسة العنف عليهم و احتقارهم . في هذا الشكل من الإلزام و الالتزام يكمن أصل الواجب و باقي القيم الأخلاقية . إنه ليس نتيجة إرادة خيرة بل نتيجة إرادة القوة ، إنه من صنع الأقوياء الذين خلقوا القيم الأخلاقية و وضعوا القوانين و حددوا معنى الخير و الشر ، إنه ما يتم به إخضاع واستعباد الضعفاء .
    3)- الواجب و المجتمع :
  ليس هناك إنسان في ذاته كما يقول كانط ، فالإنسان كائن ينتسب لمجتمع معين و في نفس الوقت ينتمي للإنسانية ، فهل الواجب لديه اجتماعي أم إنساني ؟  و هل مصدره المجتمع أم منبعه الإنسانية ؟ و هل الإنسان ملزم بواجبات نحو مجتمعه فقط أم بواجبات نحو الإنسانية جمعاء ؟ ألا يؤدي ربط الواجب بالمجتمع إلى إضفاء طابع النسبية و التغير عليه نظرا لاختلاف المجتمعات و تباينها عبر الزمان و المكان ؟
   الإنسان كما يرى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858- 1915) كائن اجتماعي يتشرب عن طريق التنشئة الاجتماعية القيم و المبادئ الأخلاقية لمجتمعه كواجبات يكره على العمل بها و السلوك وفقها . فالواجبات كمبادئ اجتماعية تخترق وجداننا الباطني و تستقر فيه كمبادئ منظمة للسلوك . فمصدر الواجب إذا هو المجتمع ، و بذلك ينفي  دوركهايم أن يكون مصدره غيبيا أو أسطوريا . يقول دوركهايم : ‘‘ فضميرنا الأخلاقي لم يَنْتُج إلا عن المجتمع و لا يُعَبِّر إلا عنه ، و إذا تكلم ضميرنا فإنما يردد صوت المجتمع فينا ’’. فالواجب سلطة اجتماعية قاهرة مكتسبة  و ليست فطرية .
   ربط الواجبات بالمجتمع يجعلها نسبية ، مختلفة من مجتمع لآخر ، و متغيرة من فترة لأخرى . و كما أن تَشَرُّبَ القيم الاجتماعية و التشبث بها و الاعتقاد في إطلاقيتها ربما يؤدي إلى الانغلاق و معاداة المختلف اجتماعيا و أخلاقيا و الطعن في ثقافته ، و بذلك تتحول الواجبات الأخلاقية من فضائل اجتماعية إلى رذائل و شرور تضر بالإنسانية .
   و هذا هو الأمر الذي سعى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) لتجاوزه ، فهو يعتبر الواجب ليس اجتماعيا فقط  بل إنسانيا أيضا . و كما أن على الإنسان واجبات نحو مجتمعه  فعليه أيضا واجبات نحو الإنسانية . فالإنسان فرد في مجتمع ،  و عضو في الإنسانية . و لذلك فالواجب ليس محصورا في احترام قيم المجتمع و العمل بقوانينه بل في احترام إنسانية الإنسان و الانفتاح على مختلف الحضارات و الاستفادة منها لبناء عالم منفتح تتلاقح فيه الأفكار و تغتني فيه الثقافات و تتعاون فيه الإرادات وتتحاور فيه الأديان و يسود فيه التسامح و تتوطد فيه علاقات  السلام و تسعد فيه الأمم . و بذلك يكون الواجب هو الانفتاح على الإنسانية بدل الانغلاق في قضايا المجتمع المحلية . و عليه فليس الواجب اجتماعيا فقط بل انساني أيضا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق